وانطلاقاً من كونها سوقاً للأوراق المالية، فإن الفرص المتاحة أمامها والتحديات التي تواجهها تعتمد وبدرجةٍ كبيرة، على الاقتصادات المحلية والإقليمية والعالمية، حيث تُحدد التقلبات والمتغيرات المستمرة في الاقتصادات المختلفة، مدى حاجة الشركات للتمويل، وكذلك رغبة المستثمرين للاستثمار في هذه الشركات، لذلك، يتعين على نموذج الأعمال والاستراتيجيات والعمليات الخاصة في ”تداول” أن تتماشى مع واقع بيئة التشغيل التي يتعين علينا مراقبتها عن كثب.

السياق

السيناريو العالمي

تعتبر جائحة كوفيد-19 من أسوأ الكوارث التي واجهتها البشرية منذ عقود، وبكل المقاييس حيث كانت لها تداعياتها السلبية البالغة على كل مناحي الحياة وفي مقدمتها الاقتصاد العالمي، الذي وصل إلى طريق مسدود واقترب من حافة التوقف التام لعدة شهور بعد تقليص الحركة بشكل حاد بسبب الإغلاق وحظر التجول، كما تعرضت بعض الصناعات مثل السفر والسياحة والفنادق والترفيه للتوقف التام. و بصرف النظر عن العواقب الاقتصادية، فقد تسبب الوباء في خسائر فادحة في أرواح البشر وصحتهم.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومات في جميع أنحاء العالم لمكافحة تأثير الوباء من خلال السياسة المالية والنقدية، فقد تعرض الاقتصاد العالمي وفق تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن البنك الدولي، لانكماشٍ بنسبة 3.5%، كما يُتوقع أن تتقلص كافة الاقتصادات المتقدمة بنسبة 4.9%. ومن المتوقع أيضاً أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية إلى 2.4%، بينما من المتوقع كذلك أن يبلغ 3.2% في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. أما فيما يتعلق بالصين، وباعتبارها حالة استثنائية بين الاقتصادات الكبرى في العالم، فمن المتوقع أن تُحقق نمواً بنسبة 2.3% رغم أن هذا المعدل يقل عن ما كانت تُحققه خلال الخمس سنوات السابقة بنسبة 6%. ومع العائدات الضريبية المتناقصة، فقد واجهت معظم الحكومات، صعوباتٍ كبيرة في تقديم المساعدة للأفراد والمؤسسات الذين تضرروا بشدة من تداعيات الوباء، كما أنه من المتوقع أن يرتفع العجز الحكومي في المتوسط بنسبة 9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020م، بينما من المتوقع أن يصل الدين العام العالمي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.

في ذات السياق، بلغت خسائر الوظائف في الربع الثاني من عام 2020م، ووفق قناة CNBC الاقتصادية، ما يعادل 400 مليون وظيفة بدوام كامل مقارنةً بالربع الأخير من عام 2019م، وبشكلٍ خاص، فقد تأثرت العمالة في القطاعات غير الرسمية والنساء والشباب بشكل خاص بسبب تداعيات الجائحة. ومن المتوقع، وفق تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، أن يقع ما بين 90 إلى 100 مليون شخص إضافي في براثن الفقر المدقع بحلول عام 2021م. وبسبب مقتضيات الوضع الناتج عن الجائحة، اضطرت العديد من الشركات إلى اللجوء إلى الاقتراض بكثافة مع الاحتمالات المتزايدة لإفلاس العديد منها.

وبعد الخسائر الكبيرة للاقتصاد في عام 2020م، من المتوقع، وفق التوقعات الخاصة بآفاق الاقتصاد العالمي، حدوث انتعاش اقتصادي عالمي خلال عام 2021م بتحقيق نمو بنسبة 5.5% وبنسبة 4.2% في عام 2022م، وذلك بناءً على التوقعات الخاصة بتأثير اللقاحات ودعم السياسات في بعض الاقتصادات المتقدمة. هناك أيضاً احتمال أن تؤدي زيادة الاستثمار العام في الاقتصادات المتقدمة إلى تحفيز زيادة الاستثمار الخاص. ومع ذلك، ليس هناك ما يدعو للتفاؤل بشأن انتهاء الوباء في وقت مبكر، حيث تختلف درجة التعافي المتوقعة من بلدٍ لآخر، الأمر الذي يُوجب التعاون القوي مُتعدد الأطراف إلى جانب الدعم المالي من أجل أن تتاح لدول العالم الثالث الاستفادة من فوائد اللقاح ومَن ثَم تحقيق التعافي الاقتصادي المنشود.

سوق الأسهم

وبالنظر إلى معظم القطاعات الأخرى، تأثرت الأسواق المالية بشكل كبير نتيجةً لتداعيات جائحة كوفيد-19. وعند بداية انتشار الوباء، شهدت الأسواق المالية تراجعا غير مسبوق. ومع ذلك، أظهرت معظم الأسهم انتعاشاً مفاجئاً بحلول نهاية عام 2020م. ولتوضيح الصورة العامة بشكلٍ أفضل، فقد أظهر مؤشر MSCI العالمي خلال نفس العام ارتفاعاً بنسبة 14% للأسهم وارتفاعاً بنسبة 5% للسندات. هذا، وتتطلع الأسواق المالية إلى الأمام بثقةٍ وتفاؤل، مدعومةً بالتوقعات بشأن الانتعاش خلال عام 2021م، خاصةً مع توفر اللقاحات ودورها الرئيسي في تحقيق الانتعاش المنتظر.

ومع ذلك، تباينت النتائج عبر فئات الأصول والأدوات المالية المختلفة. على سبيل المثال، انخفضت أسهم النفط بنسبة 24%، مما يعكس تأثير الركود على الطلب على الطاقة. في المقابل، كان أداء أسهم شركات التقنية جيداً على عكس أداء بقية المؤشرات الأخرى. من جانبٍ آخر، انخفض مؤشر FTSE100 في المملكة المتحدة بنسبة 14% على مدار العام، وذلك نتيجةً لتعثر شركات الطيران وشركات النفط والبنوك، رغم الارتفاع المطرد للمؤشر خلال الأشهر القليلة الماضية.

اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي

نتيجةً لانتشار الجائحة وانخفاض الطلب العالمي على الطاقة وتدني أسعار النفط، عانت اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي جميعها من انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.4% على مستوى المنطقة وذلك وفق التحديث الصادر عن معهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز بشأن اقتصادات منطقة الشرق الأوسط. وقد حرصت دول المجلس بشكل عام على التخفيف من عمليات الإغلاق وتفادي فرض قيود صارمة من النوع الذي شهدته بعض الدول الأوروبية. ومع ذلك، فإن الركود في قطاعات معينة مثل السفر والسياحة، إلى جانب الحاجة إلى تطبيق الإجراءات الاحترازية و التباعد الاجتماعي، قد أبطأ الانتعاش الاقتصادي. وبالرغم من أن الالتزام بسقف إنتاج النفط الذي حددته منظمة أوبك قد ساهم نسبياً في دعم أسعار النفط، إلا أنها لا تزال منخفضة بنسبة 26% عن يناير 2020م، وبينما ستكون هناك زيادة طفيفة في الإنتاج اعتباراً من يناير 2021م، من المتوقع ألا تكون هناك زيادات كبيرة في الأسعار حتى عام 2023م.

سيؤدي انخفاض أسعار النفط إلى الحد من قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على تقديم الدعم المالي، ومن المتوقع في عام 2021م، أن تحقق المنطقة معدل نمو بنسبة 2.4% فقط، وربما لا يعود النمو إلى مستويات عام 2019م قبل أواخر عام 2022م. ومع ذلك، هناك احتمال أن تتعافى قطاعات مثل الضيافة وشركات الطيران مع توفر اللقاحات، بما يُمثل فائدة لدول تستحوذ على حصة عالية من السياحة مثل مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة.

الاقتصاد السعودي

على غرار بقية دول مجلس التعاون الخليجي، تأثر الاقتصاد السعودي فعلياً بانخفاض أسعار النفط والإنتاج، حيث من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% في عام 2020م. والتزاماً بسقف الإنتاج الذي حددته منظمة أوبك، فقد ظل إنتاج النفط منخفضاً، مما سيؤدي، وفقاً لتقرير معهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز ICAEW، إلى انخفاض يقدر بنحو 4.6% في الناتج المحلي الإجمالي لقطاع النفط على أساس سنوي، يلي ذلك نمو متوقع بنسبة 1.4% في عام 2021م. إلى جانب ذلك، تضاءل النمو في القطاع غير النفطي بسبب القيود الاجتماعية، وتخفيضات الإنفاق الرأسمالي، وزيادة ضريبة القيمة المضافة. ومن المتوقع أن ينكمش القطاع بنسبة 3.6% في عام 2020م. هذا، وقد ساعدت الاحتياطيات المالية القوية من العملات الأجنبية للمملكة، على توفير المرونة اللازمة لتحمل الآثار الناجمة عن الوباء وانخفاض أسعار النفط.

تعتزم الحكومة الحفاظ على الانضباط المالي من خلال تخفيض النفقات المقدرة لعام 2021م بنسبة 7.3% مقارنةً بعام 2020م. ومن المتوقع أن يستمر العجز المالي متوسط الأجل مما يؤدي إلى ارتفاع الدين العام. ومع ذلك، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي المنخفضة نسبياً في المملكة، سوف تسمح بمزيد من الاقتراض. يقدر إجمالي الدين العام في عام 2021م بنحو 32.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 2.8% في عام 2021م، مدفوعًا بقيود أقل صرامة وتحسناً في الميزان التجاري.

خفّض الإنفاق في عام 2020م، بسبب الصعوبات التي يواجهها القطاع الخاص، وكذلك بسبب إعادة تخصيص الإنفاق الحكومي بعيداً عن الإنفاق الرأسمالي وتوجيهه إلى الدعم والتحفيز المتعلقين بجائحة كورونا. وعليه، من المتوقع حدوث انخفاض بنحو 12% في الإنفاق الرأسمالي للقطاع الخاص. وحينما انخفضت الإيرادات الحكومية، تم الحد من ذلك من خلال زيادة ضريبة القيمة المضافة إلى 15% وكذلك زيادة رسوم الاستيراد.

وفي نفس الإطار، كان على القطاع المصرفي السعودي أيضاً أن يواجه رياحاً معاكسة قوية في أعقاب جائحة كوفيد-19، حيث سجلت خسائر الائتمان في الربع الثالث من عام 2020م زيادة بنسبة 41% مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، كما انخفض إجمالي الربح بنسبة 6%. في نفس الفترة من عام 2020م مقارنةً بالفترة المماثلة من العام السابق.

وبدعم من البنك المركزي السعودي. تم استلام ودائع بدون فوائد بقيمة 110 مليار ريال حتى سبتمبر 2020م حيث ساهم هذا الإجراء في انتعاش النشاط في مجال الإقراض، وخاصة تمويل السيارات والتمويل العقاري، الأمر الذي يعكس الطلب القوي في المملكة على الإسكان وجهود الحكومة لتعزيز تملك المسكن، حيث تجاوزت معدلات ملكية المواطنين للمساكن الآن نسبة 50%، الأمر الذي يُمثل علامةً بارزة في تنفيذ خطط رؤية المملكة 2030م. من جانبٍ آخر ساهم نمو القروض في نمو الأصول بنسبة 10% على أساس سنوي مقارنة بالربع الثالث من عام 2019م، كما نمت قاعدة العملاء بنسبة 3%. ومع ذلك، من المتوقع أن تنخفض الربحية في القطاع المصرفي مع ضعف الطلب على الائتمان وزيادة القروض المتعثرة في بعض القطاعات، كما ستتأثر أيضاً عمليات تمويل البنوك نتيجةّ لانخفاض أسعار النفط.

ورغم كل هذه التحديات والصعوبات، فقد أظهر القطاع المصرفي، ما يتميز به من الديناميكية والابتكار في مواجهة الأزمة، حيث تتمتع البنوك السعودية بمعدلات رأس مال قوية توفر المرونة، وذلك على الرغم من انخفاض قدرة المقترضين على الوفاء بالتزاماتهم. وبالنظر إلى المستقبل، ومن خلال توقعات العملاء والمستثمرين، من المرجح أن تُصبح البنوك وقطاع الشركات بأكمله أكثر إدراكاً وتقديراً لاعتبارات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG). ومع ظهور وتقدم قضايا مثل تغير المناخ وصعودها سلم الأولويات، من المرجح أن تلعب الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية دوراً هاماً ومتزايداً في جداول أعمال المديرين والهيئات التنظيمية في القطاع التجاري بأكمله.